شهد عام 1969 أول ظهور علني لبشير الجميّل على مسرح الأحداث في لبنان، وذلك عندما تمّ احتجازه من قبل عناصر فلسطينية في مخيم “تل الزعتر”، رداً على قيام مسلّحين كتائبيين بنصب كمين لمجموعة فلسطينية في بلدة “الكحالة”، ممّا أدّى الى مقتل جميع أفرادها. وأشارت معلومات ّأنه تم العثور في سيارة بشير على مستندات تثبت تورّط حزب الكتائب والشعبة الثانية في حادثة الكحالة.
بعد هذه الحادثة مباشرة زار بشير الجميّل القاهرة، والتقى الرئيس جمال عبد الناصر ونجله خالد، وبعد عودته إلى بيروت قال أمام عدد من المقربين منه: “اليوم تعرّفت على عدوّي، وتعرّف عدوّي علي، مما يعني أنّنا قطعنا نصف الطريق نحو التفاهم والمصالحة. زيارة ثانية كان ينوي بشير القيام بها إلى القاهرة، إلا أن ّوفاة عبد الناصر حالت دون إتمام ذلك.
بشير الجميل بشهادات مقرّبين
كان بشير صاحب شخصية مؤثرة بنت له قاعدة شعبية واسعة في أوساط مناصريه، بحسب ما يقول بعض الذين عملوا معه، إنّه كان يعرف كيف يجعل العاملين معه يشعرون بأهميتهم لديه. فهو لم يكن يعترض على أيّ اقتراح، بل على العكس كان يشجع الجميع على تنفيذ أفكارهم، وكان يتابع كل الأمور، ويعرف أدّق التفاصيل عن معاونيه. ويروي أسعد شفتري مساعد إيلي حبيقة رئيس جهاز الأمن السابق في القوات اللبنانية كيف أنّ بشير استدعاه في إحدى المرات، وقدّم له ملبغاً كبيراً من المال هدية زواجه، وقال له:” أنت آدمي وما بتعرف تدبّر حالك خذ هذا المبلغ وإشتري به منزلاً.”
من جهته، يقول قائد القوات اللبنانية السابق فؤاد أبو ناضر وهو ابن شقيقة بشير: “بشير لم يكن ديكتاتورياً في قرارته كما يتصوّر الكثيرون. فعندما قرّرت القوات اللبنانية فرض التجنيد الإجباري على الشباب والطلاب في المناطق الخاضعة لنفوذها، اتخذت قيادة “القوات” قراراً بعدم مسايرة أحد في الإعفاء من التجنيد، وكان بشير أول الموافقين على هذا القرار، إلا أنّ التزامه به تعرّض للإهتزاز. عندما اتصّل به الرئيس كميل شمعون وطلب التدخل لإعفاء أحد المقرّبين منه من التجنيد، قوبلت الوساطة التي قام بها بشير بالرفض من قبل رئيس شعبة التجنيد “نزار نجاريان” (قضى في انفجار المرفأ)، الذي ذكرّه بأنّه كان أول الموافقين على القرار، فسكت بشير ولم يعترض. ويضيف “أبو ناضر: كان بشير يصرّ دائما على أنّ لبنان يجب أن يبقى موحداُ بحدوده الحالية، مخالفاً بذلك رأي تيار واسع في القوات اللبنانية، والذي كان يدعو إلى قيام كيان مسيحي مستقلّ، إلاّ أنّ فكرة بشير هي التي انتصرت في النهاية.”
بداية علاقة بشير الجميل بإسرائيل
مع تصاعد حدة الخلافات بين المنظمات الفلسطينية والأحزاب اليسارية من جهة والأحزاب اليمينية من جهة أخرى، على خلفية الموقف من الوجود الفلسطيني في لبنان، والتي انعكست صدامات في المدارس والجامعات بين مناصري الطرفين، قرّر “بشير” تأسيس السرية الطلابية في حزب الكتائب، والتي خرجت منها فيما بعد فرقة ال “ب.ج”، وهي فرقة عسكرية أسسّها بشير بعد الاشتباكات التي جرت بين الجيش اللبناني والمنظمات الفلسطينية في مخيمي صبرا وشاتيلا عام 1973، وكان لها دور في الحرب الأهلية.
مع بداية الحرب الأهلية عام 1975، بدأت علاقات بشير بالإسرائيليين تنمو وتتسع. وتشير بعض تقارير “المكتب الثاني” إلى اجتماعات بين الطرفين جرت قبل بداية الحرب الأهلية في بارجة إسرائيلية في عرض البحر. المعارك التي جرت في أول الحرب أسفرت عن هزائم متلاحقة لمليشيات حزب الكتائب وحلفائه. هذا المشهد اعتبره بشير تبريراً كافياً للتعاون مع الإسرائيليين. ففي شهر أذار 1976 كان “سامي خويري” أول مسؤول كتائبي يزور إسرائيل موفداً من بشير الجميل، طلباً للدعم بالمال والسلاح، ليأتي بعد ذلك دور جوزف ابو خليل. وفي الثاني من نيسان عام 1976 رست أول باخرة إسرائيلية في مرفأ الأكوامارينا، وهي تحمل سلاحاً لمليشيات الجبهة اللبنانية.
الدور السوري في لجم الجميّل عن التعامل مع إسرائيل
من جهتهم، حاول السوريون لجم اندفاعة الجبهة اللبنانية نحو إسرائيل، فدخلوا الى لبنان بناءً لطلب رئيس الجمهورية سليمان فرنجية ومناشدة قادة الجبهة اللبنانية. شكّل دخول الجيش السوري إلى لبنان مادة للخلاف مع كمال جنبلاط والحركة الوطنية التي كانت تطالب بالحسم العسكري مدخلاً للحلّ السياسي. فيما كان رأي السوريين أنّ الحسم سيعطي حجة لإسرائيل للتدخل بذريعة حماية الأقليّات من خطر الإبادة. واستفادت من دخول الجيش السوري إلى لبنان الجبهة اللبنانية لتحسين مواقعها مجدداً. وكان بشير الجميل في دمشق عندما اتصل بالوزير السابق ادمون رزق، وكان يومها رئيساً لإقليم جزين الكتائبي، وأبلغه أنّ طوّافة عسكرية سورية في طريقها إلى جزين محمّلة بالأسلحة والعتاد لدعم حزب الكتائب. وعندما قرّر “بشير” القيام بعملية عسكرية لاقتحام منطقة البربير بمساعدة الجيش اللبناني، أمدّه السوريون بالعتاد اللازمة، ولكن العملية أُلغيت في اللحظات الاخيرة. كما لعب السورييون دوراً أساسياً في عملية إسقاط مخيم تل الزعتر.
بالرغم من أنّ السوريين نجحوا لفترة في وقف العلاقات بين بشير الجميل وإسرائيل، إلاّ أنّ رهان بشير على إسرائيل عاد ليبرز مجدداً بعد زيارة الرئيس أنور السادات إلى القدس، وبدء الحديث عن اتفافية سلام بين مصر واسرائيل. هنا، أبدى السوريون إستياءهم من عودة العلاقات بين بشير وإسرائيل؛ ففي لقاء عقد في بلدة “بلونة” الكسروانية عام 1978، في منزل النائب السابق جورج عقل، توجّه المقدّم في الجيش السوري”إبراهيم الحويجي” إلى عضو المكتب السياسي في حزب الكتائب، الوزير السابق “جوزف الهاشم” قائلاً: أوقفوا رحلاتكم إلى إسرائيل، نحن لا نستطيع تحمّل ذلك”.
مع تقدّم العلاقات بين مصر وإسرائيل، والتي أدّت الى توقيع اتفاقية كامب ديفيد، راح بشير يعدّ العدّة ليكون جزءاً من مشروع السلام مع إسرائيل في المنطقة، وترجم خياره هذا بافتعال معركة الأشرفية، والتي عرفت بحرب المئة يوم، ومنذ ذلك الحين راح بشير يلحّ على الإسرائيليين بضرورة اجتياح لبنان لإنقاذه من السوريين والفلسطينيين بحسب زعمه.
موقف رئيس الجمهورية آنذاك الياس سركيس المتوازن من أحداث الاشرفية لم يعجب بشير الجميل، فحاول الضغط عليه لانتزاع موقف يصبّ في مصلحة الجبهة اللبنانية، وعندما لم يفلح في ذلك قرّر اغتياله باستهداف طائرته بالقذائف المدفعية أثناء توجهه الى دمشق للقاء الرئيس حافظ الأسد لبحث سبل إيجاد حل لوقف المعارك في الاشرفية. العناية الإلهية أنقذت الرئيس سركيس فسقطت القذائف على مدرج المطار، ولم تصب الطائرة.
سمير جعجع يشهر سلاحه بوجه بشير الجميل
لم يكن بشير حاداً في علاقاته مع السوريين فقط، بل مع حلفائه في الجبهة اللبنانية أيضاً، وخاصة الذين كان يشعر أنّهم يشكّلون له منافساً على امتلاك القرار المسيحي على الأرض، ومن هنا كانت معاركه الدامية مع حزب الوطنيين الأحرار بقيادة داني شمعون، والتي انتهت بمجزرة الصفرا وخروج داني شمعون من المنطقة الشرقية في 7 تموز 1980. وقبل ذلك كانت مجزرة إهدن التي ذهب ضحيتها النائب طوني سليمان فرنجية في 13 حزيران 1978 ،وكان الإسرائيليون قبل مجزرة الصفرا قد طلبوا من قيادات الجبهة اللبنانية التوجه اليهم بمحاور واحد. ومنذ ذلك الوقت بدأ السباق بين داني وبشير للفوز بهذه الافضلية. وبعد اقتلاعه لنفوذ داني شمعون، توجّه بشير الى الإسرائيليين قائلا:” من اليوم وصاعداً يكون الكلام معي وحدي.” بدورها، لم تكن علاقة بشير ببعض مسؤولي القوات اللبنانية بأفضل حال من علاقاته ببعض حلفائه، وخاصة علاقته مع سمير جعجع والتي كانت دائماً متوترة، والسبب حاجز البربارة. فبينما كان سمير جعجع يصرّ على الاحتفاظ بالرسوم التي كان يجنيها من العابرين على الحاجز لنفسه ولجماعته، كان بشير يريد إدخال الرسوم في مالية القوات اللبنانية، وعندما ذهب بشير إلى موقع الحاجز لمعالجة الموقف حصل خلاف بينه وبين سمير جعجع، أقدم خلاله سمير جعجع على شهر السلاح بوجه بشير الجميل طالباً منه مغادرة المنطقة.
علاقة بشير بأخيه أمين الجميل
في معرض الحديث عن علاقات بشير بحلفائه، والتي كانت دائماً تتخذ طابعاً دموياً عندما كان يشعر أنّ أحداً يريد منافسته على السلطة، فإنّ علاقته بشقيقه الرئيس أمين الجميل لم تكن بأفضل حال. فمنذ دخول أمين وبشير المعترك السياسي توترت العلاقة بينهما، ولم يعد أحد منهما يتحمّل الآخر سياسياً أو حزبياً، وأصبحت المكائد والحساسيات سيدة الموقف في التعاطي بينهما. بعد استشهاد “أبوحسن سلامة” القائد الفلسطيني البارز على يد الموساد الإسرائيلي في شارع “فردان” في بيروت عام 1979، اتصلت زوجته ملكة جمال الكون السابقة “جورجينا رزق” بأمين الجميل وأعلمته برغبتها في الإنتقال للسكن في الأشرفية مع ابنها. انتقال جورجينا رزق للسكن في الأشرفية بتسهيل من أمين الجميل أثار غضب شقيقه بشير، الذي اعتبر أنّه كان على شقيقه استتئذانه قبلاً في منطقة تعتبر خاضعة لسيطرته. وفي رسالة الهدف منها إفهام شقيقه أنّه الأقوى على الساحة المسيحية، قام بشير باختطاف جورجينا من منزلها ليلاً وهي بملابس النوم، حيث تم نقلها إلى مركز جهاز الأمن التابع للقوات اللبنانية. هناك أمضت ليلتها معصوبة العينين، وهي تتلّقى سيلاً من الكلام الخادش للحياء، قبل أن يتم اطلاق سراحها في اليوم التالي.
حلم بشير بالرئاسة يوقعه فريسة إسرائيل
مع القرار الإسرائيلي باجتياح لبنان شعر بشير أنّ حلمه بالوصول الى رئاسة الجمهورية بات في متناول اليد، فراح ينسّق مع الإسرائليين في عملية دخولهم الى المناطق التي كانت تحت سيطرته. كان لافتاً في تلك الفترة ارسال بشير لموفدين من قبله إلى قيادات في الحركة الوطنية لاطلاعهم على قرار إسرائيل باجتياح لبنان داعياً إيّاهم إلى التعاون من أجل إنقاذ لبنان، ومدّ يد التعاون لقيادات الحركة الوطنية. يقول أسعد شفتري إنّ الغاية منها كانت:” دفع الحركة الوطنية الى استنفار قواتها بحيث يسهل ضربها من قبل الإسرائيليين، وتشكيل حالة ضغط على ياسر عرفات بغية دفعه لمغادرة بيروت”. ويكشف الشفتري أيضاً عن اتصالات كانت تجري قبل الاجتياح بين بشير الجميل والرئيس صائب سلام، وهي استمرت خلال الاجتياح، ولكنه يرفض الكشف عن مضمونها تاركاً الأمر للرئيس تمام سلام.
انتخاب بشير الجميل رئيساً للجمهورية لم ينل رضا والده الشيخ بيار الجميل، وقال لجوزف الهاشم عندما توجه إليه لتهنئته: “لا أريد تهنئة من أحد، هذا المشروع ليس مشروعاً ناجحاً.”وفي 14 ايلول 1982 قضى بشير بانفجار دمّر بين الكتائب في الأشرفية فطار المشروع وبقي التاريخ.
ا